ذ. وليد كبير يكتب : لماذا أُعلن القطيعة مع وهم "الوحدة المغاربية"؟

أضيف بتاريخ 05/07/2025
وليد كبير

🟢 قراءة نقدية في جدوى المشروع المغاربي في ضوء التاريخ والواقع الجيوسياسي الجديد

ظلّ ما يُسمى بمشروع "الوحدة المغاربية" حاضرا في الأدبيات السياسية منذ خمسينيات القرن الماضي، يُقدم كحلم مشترك يربط المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا وموريتانيا. غير أن هذا المشروع لم يصمد أمام صدمة الواقع، ولا أمام التناقضات الصارخة في التجارب السياسية والهويات الجغرافية والرهانات السيادية.

اليوم، آن الأوان لإعلان القطيعة النهائية مع هذا المشروع المتآكل، والانخراط في تفكير استراتيجي جديد يعترف بتباينات التاريخ، واختلال الجغرافيا، ويصحح الموازين السياسية والاقتصادية في المنطقة


 

أولا: الشق التاريخي… المغرب المستقل في مواجهة الإيالات العثمانية

على امتداد قرون، حافظ المغرب على استقلاله السياسي والروحي، في حين خضعت الجزائر وتونس وليبيا لحكم العثمانيين، كإيالات تابعة للباب العالي في إسطنبول. هذا التفاوت في التجربة السياسية أنتج تباينات عميقة لا يمكن إنكارها، وأسس لقطيعة هيكلية بين المغرب ومحيطه الشرقي.

وبعد سقوط الدولة الموحدية، تعمق هذا الانقسام، وبلغ ذروته مع سيطرة الدولة العثمانية على الجزائر، فخاضت مواجهات مسلحة مع المغرب قصد بسط نفوذها عليه لكن محاولاتها باءت كلها بالفشل. ثم جاء الاستعمار الفرنسي ليزيد الوضع تعقيدا، حين فرض اتفاقية لالة مغنية سنة 1845 ثم بدأ في التوغل نحو الصحراء فاقتطع مناطق مغربية خالصة كـ"توات"، "تندوف"، "تيديكلت"، و"الساورة" وضمها إلى كيانه الاستعماري في الجزائر.

ثانيا: السكوت عن الأراضي المغربية المحتلة… الخلل الجيوسياسي الأكبر

ما زالت الجزائر تحتل هذه الأراضي المغربية منذ انسحاب فرنسا دون أي إطار قانوني أو تفاوض ثنائي. وهذا السكوت غير المبرر أدى إلى اختلال توازن المنطقة، وأسس لحالة من الهيمنة الإقليمية غير المشروعة رغم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود سنة 1972 التي لم تلتزم الجزائر بمضامينها ولا ملاحقها ولا بروحها التي كانت الغاية منها طي الخلافات والتعاون من أجل بعث تكتل إقليمي هادف.

فتح هذا الملف لم يعد خيارا، بل ضرورة لتحقيق العدالة التاريخية وتصحيح الخريطة الجيوسياسية لشمال أفريقيا. لا استقرار ولا وحدة حقيقية دون تصفية هذا الإرث الاستعماري الذي يُعد أحد أبرز جذور النزاع المغربي الجزائري، وأحد أسباب فشل أي مشروع تكاملي.

ثالثا: الحدود الموروثة عن الاستعمار… لعنة أفريقيا الدائمة

الحدود التي فرضها الاستعمار كانت تهدف إلى تقسيم الشعوب، وخنق التبادلات، وتفجير النزاعات المستقبلية. وقد أثبت الزمن أن سياسة "احترام الحدود الموروثة" التي فرضتها منظمة الوحدة الأفريقية عام 1964 لم تُنتج إلا الشلل، وتأبيد الانقسامات، وتأخير التنمية، خاصة في منطقة شمال وغرب أفريقيا.

وفي السياق الشمال الإفريقي، لم تكن هذه الحدود إلا أداة لترسيخ واقع غير عادل، استفاد منه فقط المستعمر القديم ووكيله في الجزائر الذي مزال يحكم بمفاهيم السيطرة لا الشراكة.

رابعًا: المغرب وعمقه الأفريقي… عودة إلى الامتداد الطبيعي

في مقابل هذا الجمود، بدأ المغرب في إعادة بناء استراتيجيته الجيوسياسية على أسس واقعية، من خلال العودة إلى عمقه التاريخي في غرب أفريقيا، وهو الامتداد الذي كان حاضرا منذ قرون عبر الطرق التجارية التي ربطت فاس وتمبكتو وغاو وسان لويس، فمرت عبر گلميم وتندوف وتوات وشنقيط نحو حواضر الساحل الكبرى.

تُظهر خريطة سنة 1700، التي أعدها متحف اللوفر سنة 2012 بوضوح أن المغرب، تحت حكم الدولة العلوية القائم إلى يومنا هذا، كان كيانا سياسيا مستقلا تماما عن الهيمنة العثمانية التي سيطرت على الجزائر وتونس وليبيا. كما توضح الخريطة الامتداد السياسي والاقتصادي والحضاري والروحي  للمغرب من الشمال نحو الجنوب، وكرس دوره المحوري في التوازن الجيوسياسي لغرب أفريقيا.

لم تكن الطرق التجارية التاريخية للمغرب مجرد ممرات للسلع، بل جسورا لنشر الإسلام والعلم، وروافد للعلاقات الروحية والولائية، مما يُعزز مشروعية المبادرة الملكية الحالية لتمكين دول الساحل (تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو) من الوصول إلى المحيط الأطلسي عبر التراب المغربي. هذه المبادرة تعيد رسم ملامح الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وتؤسس لمحور استقرار وتنمية في وجه الفوضى والعداء.

خامسًا: القطيعة السياسية… النظام العسكري في الجزائر عائق تكاملي

الجزائر، منذ الاستقلال، تخضع لحكم عسكري يحتقر خيار الملكية الدستورية في المغرب، ويرى فيها تهديدا رمزيا لسطوته. هذا النظام جعل من العداء للمغرب جزءا من هويته السياسية، وراح يحتضن الانفصال، ويغذي النزاعات، ويقمع أي مشروع اندماجي حقيقي.

في ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن "وحدة مغاربية"، ولا عن أي تكامل اقتصادي أو سياسي. فالثقة معدومة، والعداء مزمن، والإرادة غير موجودة لدى نظام يحكم بمنطق الحرب الباردة.
سادسا: إعادة التوازن… تكتلان لا وحدة زائفة

البديل العقلاني هو إنشاء تكتلين إقليميين منسجمين مع التاريخ والواقع:

-تكتل أول يضم المغرب ودول الساحل (موريتانيا، تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو، السنغال)، يقوم على امتداد تاريخي، وتحديات أمنية وتنموية مشتركة، وعمق روحي وثقافي راسخ.

-تكتل ثان يضم الجزائر، تونس، وليبيا، وهي دول تشترك في الحدود والبنية السياسية وتواجه تحديات اقتصادية وأمنية متقاربة.

هذا النموذج يضمن توازنا إقليميا حقيقيا، بدل "الوهم المغاربي" الذي لم يكن سوى شعار أجوف يُستخدم لتبرير العجز السياسي.

خاتمة:  من التصالح مع التاريخ… إلى بناء المستقبل

القطيعة مع وهم “الوحدة المغاربية” ليست انسحابا من الحلم، بل انتقال إلى مشروع بديل أكثر عقلانية: مشروع التكتلات الإقليمية المتوازنة المبنية على الشرعية التاريخية، والسيادة، والإنصاف.

لم يعد من المقبول الاستمرار في تمجيد وحدة لم تتحقق، وتجاهل ملفات تُعد أساسا للاختلال والاستفزاز. لقد آن الأوان لإعادة النظر في كل المسلمات، بما في ذلك فتح ملف الصحراء الشرقية المغربية، لأنه شرط لتحقيق الاستقرار وإعادة رسم خريطة المنطقة بشكل عادل ومتوازن.

هذه المراجعة ليست عدوانا، بل تصحيحا لخللٍ دام طويلا، ودفعا نحو سلام إقليمي حقيقي يطوي صفحة الاستعمار، ويستجيب لتطلعات الشعوب، لا لإملاءات من ورثوا الخرائط المفروضة.

والمستقبل لا يُبنى على شعارات الوحدة، بل على العدالة التاريخية، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة. وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القطع مع منطق الهيمنة، ومواجهة الحقيقة… مهما كانت موجعة.



👆📸  خريطة من إعداد متحف اللوفر – سنة 1700
تُظهر استقلال المغرب تحت حكم الدولة العلوية، وامتداد الطرق التجارية نحو تمبكتو وغاو وسان لويس


 



وليد كبير هو ناشط سياسي وإعلامي جزائري معروف بتحليلاته للأحداث الراهنة في شمال إفريقيا، وخاصة ما يتعلق بالعلاقات الجزائرية-المغربية وقضايا المنطقة المغاربية. يُعرف بتسليطه الضوء على السياسات الداخلية الجزائرية وانتقاده للنظام الحاكم في الجزائر، كما يهتم بتحليل الأحداث الجيوسياسية والتطورات الاقتصادية في المنطقة. وليد كبير لديه حضور إعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي وقناة يوتيوب خاصة به، حيث ينشر الفيديوهات والتحليلات ويناقش مع متابعيه مختلف القضايا السياسية والاجتماعية.

يعتبر من الأصوات البارزة التي ما فتأت تنادي بالوحدة المغاربية وتعزيز التعاون بين شعوب المنطقة، كما ينتقد سياسات النظام الجزائري التي تعيق تحقيق التكامل المغاربي. بالإضافة إلى ذلك، يُعرف عنه إثارته لقضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير في الجزائر، فضلاً عن تحليله للتطورات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي في المنطقة.

☑️ تابع قناة ذ. وليد كبير الاعلامية على تلغرام