"لن أنسى كيف غادرنا الصحراء ولو بعد ألف عمر"

أضيف بتاريخ 11/06/2025
عبر إلموندو

نشرت صحيفة «إل موندو» الإسبانية، مقالا مطولا يوثّق شهادات ثلاثة عسكريين خدموا في الصحراء الغربية قبيل «المسيرة الخضراء». خلال الأسابيع الأخيرة، أقرّ مجلس الأمن أن مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب تُعد «الأكثر قابلية للتطبيق»، ما أعاد الملف إلى واجهة النقاش الإقليمي والدولي.



قبل خمسين عامًا انطلقت «المسيرة الخضراء» نحو الصحراء الغربية، حدثٌ أعاد رسم حدود النفوذ ودفع إسبانيا إلى الانسحاب على عجل. ثلاثة عسكريين شاركوا في تلك الأيام يروون تفاصيل النهاية كما عاشوها، بين الواجب والارتباك وفقدان اليقين.

لا يزال الضابط المتقاعد بيروتي يتوقف عند ذكرى رفيقه في الفوج الذي قُتل في هجوم خلال الأشهر الأخيرة من الوجود الإسباني في الصحراء. مضى نصف قرن على الانسحاب، لكنه يصف تلك اللحظة كأنها حدثت بالأمس: «لن أنسى كيف غادرنا الصحراء ولو بعد ألف عمر»، يقولها وهو في السادسة والثمانين، يستعرض الوقائع بهدوء في مقهى بملّيلية حيث يقيم اليوم

وصل بيروتي إلى الصحراء سنة 1968 وهو برتبة ملازم في الفيلق، واستقر هناك مع زوجته وأطفاله حتى 1975. كانت المنطقة، الممتدة قبالة جزر الكناري والمتاخمة للمغرب وموريتانيا والجزائر، قد اكتسبت وزنًا اقتصاديًا مع اكتشاف فوسفات بوكراع، فتبدّل موقعها من «هامش بعيد» إلى مساحة لها حساب في بلاغات السياسة والاقتصاد.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، أدارت إسبانيا الإقليم عبر تفاهمات مع قيادات قبَلية، وتحوّل وضعه في 1958 إلى «إقليم إسباني» قانونيًا. لكن الطقس القاسي وطبيعة المجتمع الرحّل أبقيا الحضور الإداري والعسكري في حدود محسوبة حتى تغيّر كل شيء مع الفوسفات.

في سنوات ما بعد الحرب الإسبانية، اتجهت الجهود إلى تثبيت الإدارة في العيون وسمارة وبقية المراكز، وتغيّرت تفاصيل الحياة اليومية بسرعة. يقول بيروتي: «كنّا نعيش ببساطة، نعرف بعضنا، ونؤدي عملاً نرى أثره». بين 6 و12 ألف عسكري انتقلوا مع عائلاتهم، قبل أن تتبدّل الأجواء جذريًا مطلع السبعينيات.

في 1973، ظهرت جبهة البوليساريو كحركة تطالب بالاستقلال. زادت الضغوط الدولية، وطالبت الأمم المتحدة بإنهاء الاستعمار وفتح طريق تقرير المصير. داخليًا، كانت إسبانيا في مرحلة احتضار نظام فرانكو، والإدارة عاجزة عن الحسم. يختصر بيروتي تلك المرحلة: «كل أسبوع مسألة جديدة تُحلّ، والعلاقات تتبدّل بسرعة».

وصل سالافرانكا إلى سمارة في نوفمبر 1974 وهو ملازم حديث التخرّج. كانت الدوريات اليومية «مدرسة ميدانية»، كما يقول: لوجستيات، نقل، تأمين، ومساحة صحراوية مفتوحة تتيح التدريب دون إضرار بالمدنيين.

رغم ذلك، ظلّ التوتّر حاضرًا: عبوات ناسفة في الكثبان، مصادرها غير مؤكدة، وإصابات يومية. نجا بيروتي من انفجار أثناء دورية، وكانت وحدته تملك عشرات المركبات وشاحنات إسناد، ما يعكس حجم الانتشار الإسباني الذي بلغ في الذروة نحو 25 ألف عسكري.

يقول سالافرانكا إن «البوليساريو لم تكن تستهدف الفيلق مباشرة»، لكن الخطر لم يكن معدومًا. ومع تصاعد الأحداث، شاع بين العسكريين شعور بأن المواجهة مع الجيش المغربي قادمة لا محالة.

وُضعت بروتوكولات أمنية صارمة: عدم المبيت في مكان الدوريات، الحركة ليلًا، والتهيؤ لظروف الصحارى القاسية. في الخلفية، كانت الاتصالات السياسية تتقدّم نحو اتفاق، فيما الميدان يستعد لسيناريو الصدام.

في سبتمبر 1975، تزايدت الإشارات إلى أن القرار السياسي يتقدّم بعيدًا عن الميدان. زيارات غير معلنة لمسؤولين، وحديثٌ عن «إقليم سلّم أمره»، كما نقل بيروتي عن أحد الجنرالات.

بالتوازي، كان خوان كارلوس يستعد لزيارة العيون لرفع معنويات الجنود فيما فرانكو في لحظة حرجة صحيًا، والملف يتجه إلى طاولة تفاوض تُراد لها نهاية سريعة.

تقاطعت في تلك الأيام أخبارٌ عن لقاءات تفاوضية مع مسؤولين مغاربة، ما عزّز قناعة الجنود بأن المسار السياسي سبقَ الميدان وأن النهاية وشيكة.

في أواخر أكتوبر، رأت محكمة العدل الدولية أنه لا سيادة للمغرب على الصحراء مع اعتراف بروابط تاريخية. اعتبر الملك الحسن الثاني ذلك سندًا سياسيًا لمبادرة تعبئة شعبية: «المسيرة الخضراء».

خُطّت الخطة على أساس دفع آلاف المدنيين غير المسلحين إلى الحدود، ما يضع إسبانيا أمام خيارين أحلاهما مُرّ: السماح بالتقدّم أو الاشتباك مع مدنيين. وبينما كان فرانكو يحتضر سياسيًا، وصل خوان كارلوس إلى العيون في زيارة دعم قصيرة، على وقع وساطات لضمان هدوء اللحظة.

مع اقتراب النهاية، صدرت أوامر بإخلاء المدنيين بسرعة. يقول بيروتي: «تحوّل كل شيء إلى أوامر متضاربة، بُنيت منازل ولم تُسلّم، وغادرت العائلات على عجل».

يروي لوبيث دي ماتورانا، الذي خدم سنة واحدة، أنه نام مع زملاء في بيوت جديدة غير مسكونة، وأن ذلك العام كان «أشد أعوام الخدمة كثافة» في تجربته.

يضيف: «ذهبنا متطوّعين إلى المكان الأصعب، وتعلّمنا فنون الخدمة في ظروف قاسية».

أما أصعب يوم، فيصفه بيروتي بأنه لحظة إجلائه لعائلته في طائرة صغيرة على مدرج ترابي، قبل أن يعود لتنظيم نقل الممتلكات التي تُركت وراء الأبواب. «صفحة قاتمة في تاريخنا»، كما يقول.

في 2 نوفمبر، زار خوان كارلوس العيون والتقى الجنود. كانت الرسالة واضحة: رفع المعنويات في وقت بات فيه الانسحاب شبه محسوم.



لم تتوقف التعبئة. نُظّمت القوافل والتموين، وتجمّع نحو 350 ألف متطوّع قرب طرفاية حاملين الرايات الخضراء.

تموضع بيروتي ووحدته بين كثبان لمنع العبور، ويقول: «اقترب إلينا مدنيون يطلبون الطعام. كان الجيش المغربي يحتمي خلفهم، مشهد مربك». أوكل إلى سالافرانكا مراقبة حقول الألغام لتفادي إصابات المدنيين، وكان مقتنعًا بأن المواجهة العسكرية شبه مؤكدة.

«كنا سننتصر»، يقول، «لدينا دبابات وقدرات اتصال وتنظيم أفضل».

في 6 نوفمبر 1975 عبرت «المسيرة» الحدود. اختارت إسبانيا عدم استخدام القوة ضد المدنيين، وبدأت محادثات قادت لاحقًا إلى «اتفاقيات مدريد» التي أنهت وجودها في الإقليم. شارك الجنود شعورًا واحدًا: الإحباط من أمر الانسحاب دون قتال.

بدأت عملية الإجلاء. أُرسل سالافرانكا إلى السفينة «كاستيا» لتفريغ ونقل العتاد.

كانت المعدات هائلة، وعند 20 نوفمبر توفي فرانكو. عاد بيروتي في رحلة أخيرة إلى الصحراء، يقول: «غمرني شعور ثقيل بالرحيل وعدم اليقين، وانهمرت الدموع».

بالنسبة لماتورانا، الذي خدم لعام واحد، كان الإحساس مختلفًا: لم يشعر بأنه «خان الصحراويين»، ويرى أن ممثليهم أخطأوا في تقدير موقع إسبانيا.

يقول: «لم تكن إسبانيا عدوًا لهم تاريخيًا، لكن الحسابات تغيّرت فجأة».

عاد بيروتي بقرار إتمام الإجلاء حتى آخر قطعة. ظهر لاحقًا في مقابلة تلفزيونية بوصفه «آخر عسكري غادر الإقليم»، وقال: «رجالي غادروا ورؤوسهم مرفوعة لأنهم أدّوا ما طُلب منهم. كنت أتمنى نهاية أخرى، لكنهم حفظوا شرفهم».



بعد «اتفاقيات مدريد»، تركت إسبانيا الإدارة للمغرب وموريتانيا، فيما اعتبرت الأمم المتحدة أن مسار إنهاء الاستعمار لم يكتمل وأن الصحراويين لهم حق تقرير المصير. انسحبت موريتانيا لاحقًا، وسيطر المغرب على كامل الإقليم. أعلنت البوليساريو «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية» واتخذت مخيمات تندوف قاعدةً، وبقي كثير من الصحراويين بلا جنسية واضحة رغم امتلاك البعض وثائق قديمة.

وقعت إسبانيا في موقع ملتبس: وضع قانوني غير محسوم، وحياد معلن لعقود، مع علاقات عملية مع المغرب في ملفات الصيد والهجرة ومكافحة الإرهاب.